فصل: تفسير الآيات (16- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (13):

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}
{قَدْ كَانَ لَكُمْ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ وهو من تمام القول المأمور به جيء به لتقرير مضمونِ ما قبله وتحقيقِه، والخطابُ لليهود أيضاً والظرف خبر كان على أنها ناقصة ولتوسطه بينها وبين اسمها تُرك التأنيث كما في قوله:
إن أمراً غرّه منكن واحدة ** بعدي وبعدك في الدنيا لمغرورُ

على أن التأنيث هاهنا غير حقيقي أو هو متعلق بكان على أنها تامة وإنما قدم على فاعلها لما مر مراراً من الاعتناء بما قُدّم والتشويق إلى ما أُخِّر أي والله قد كان لكم أيها المغترون بعددهم وعُدَدهم {ءايَةً} عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستُغلبون {فِي فِئَتَيْنِ} أي فرقتين أو جماعتين فإن المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقِيَها ما لقيها فسيصيبُكم ما يصيبكم، ومحلُ الظرف الرفعُ على أنه صفة لآيةٌ وقيل: النصب على خبرية كان والظرف الأول متعلق بمحذوف من آية {التقتا} في حيز الجر على أنه صفة فئتين أي تلاقتا بالقتال يوم بدر {فِئَةٌ} بالرفع خبرُ مبتدإٍ محذوف أي إحداهما فئة كما في قوله:
إذا متّ كان الناسُ حزبين: شامت ** وآخَرُ مُثنٍ بالذي كنت أصنعُ

أي أحدهما شامت والآخر مثنٍ وقولِه:
حتى إذا ما استقلّ النجمُ في غلَس ** وغودر البقلُ ملويٌّ ومحصودُ

والجملة مع ما عطف عليها مستأنفةٌ لتقرير ما في الفئتين من الآية وقوله تعالى: {تقاتل فِي سَبِيلِ الله} في محل الرفع على أنه صفةُ {فِئَةٌ} كأنه قيل: فئة مؤمنة ولكن ذُكر مكانه من أحكام الإيمان ما يليقُ بالمقام مدحاً لهم واعتداداً بقتالهم وإيذاناً بأنه المدارُ في تحقق الآية وهي رؤية القليل كثيراً وقرئ {يقاتل} على تأويل الفئة بالقوم أو الفريق {وأخرى} نعت لمبتدأ محذوف معطوف على ما حذف من الجملة الأولى أي وفئة أخرى وإنما نكرت والقياس تعريفها كقرينتها لوضوح أن التفريق لنفس المثنى المقدم ذكره وعدم الحاجة إلى التعريف وقوله تعالى: {كَافِرَةٌ} خبرُ المبتدأ المحذوف وإنما لم توصف هذه الفئة بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطاً لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذاناً بأنهم لم يتصدَّوْا للقتال لما اعتراهم من الرعب والهيبة وقيل: كلٌّ من المتعاطِفَين بدل من الضمير في {التقتا} وما بعدهما صفة فلابد من ضمير محذوفٍ عائدٍ إلى المبدل منه مسوِّغٍ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضميره أي فئةٌ منهما تقاتل إلخ وفئة أخرى كافرة، ويجوز أن يكون كلٌّ منهما مبتدأً وما بعدهما خبراً، وقيل: كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منمهما فئة تقاتل إلخ وقرئ {فئةٍ} بالجر على البدلية من فئتين بدلَ بعض من كل وقد مر أنه لابد من ضمير عائد إلى المبدل منه ويسمى بدلاً تفصيلياً كما في قول كثير عزة:
وكنت كذي رِجلين رِجلٍ صحيحة ** ورجلٍ رمى فيها الزمانُ فَشُّلَّت

وقرئ {فئة} إلخ بالنصب على المدح أو على الحالية من ضمير التقتا كأنه قيل: التقتا مؤمنةً وكافرةً فيكون {فِئَةٌ} و{أخرى} توطئةً لما هو الحال حقيقة إذ المقصودُ بالذكر وصْفاهما كما في قولك: جاءني زيد رجلاً صالحاً.
{يَرَوْنَهُمْ} أي يري الفئةُ الأخيرةُ الفئةُ الأولى، وإيثارُ صيغة الجمعِ للدلالة على شمول الرؤيةِ لكل واحدٍ واحدٍ من آحاد الفئة، والجملةُ في محل الرفع على أنها صفةٌ للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبيّنةٌ لكيفية الآية {مّثْلَيْهِمْ} أي مثليْ عددِ الرائين ألفين إذا كانوا قريباً من ألف. كانوا تسعمائةٍ وخمسين مقاتلاً رأسَهم عُتْبةُ بنُ ربيعةَ بنِ عَبْد شَمْس وفيهم أبو سفيانَ وأبو جهلٍ وكان فيهم من الخيل والإبل مائةُ فرسٍ وسبعُمائة بعير ومن أصناف الأسلحة عددٌ لا يحصى، عن محمد بن أبي الفرات عن سعد بن أوس أنه قال: أسرَ المشركون رجلاً من المسلمين فسألوه كم كنتم؟ قال: ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ قالوا: ما كنا نراكم إلا تُضعِفون علينا، أو مثلي عددِ المرئيّين أي ستَّمائةٍ ونيفاً وعشرين حيث كانوا ثلثمائة وثلاثةَ عشرَ رجلاً سبعةٌ وسبعون رجلاً من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين وكان صاحبَ رايةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه وصاحبَ راية الأنصار سعدُ بن عبادة الخزرجي وكان في العسكر تسعون بعيراً وفَرَسان أحدُهما للمِقداد بن عَمْرو والآخر لمَرْثَد بن أبي مَرْثَد وستُّ أدرع وثمانيةُ سيوف وجميع من استُشهد يومئذ من المسلمين أربعةَ عشرَ رجلاً ستةٌ من المهاجرين وثمانية من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أراهم الله عز وجل كذلك مع قِلتهم ليَهابوهم ويَجبُنوا عن قتالهم مدداً لهم منه سبحانه كما أمدهم بالملائكة عليهم السلام وكان ذلك عند التقاء الفئتين بعد أن قلَّلَهم في أعينهم عند ترائيهما ليجترئوا عليهم ولا يهرُبوا من أول الأمر حين ينجيهم الهرب، وقيل: يري الفئةُ الأولى الفئةُ الأخيرةَ مثليْ أنفسِهم مع كونهم ثلاثةَ أمثالِهم ليثبُتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى: {فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} والأول هو الأولى لأن رؤية المِثلين غيرُ متعيّنةٍ من جانب المؤمنين بل قد وقعت رؤيةُ المثل بل أقلَّ منه أيضاً فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضعِفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ثم قلّلهم الله تعالى أيضاً في أعينهم حتى رأوهم عدداً يسيراً أقلَّ من أنفسهم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا منهم رجلاً فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقلَّ من عددهم في نفس الأمر كما في سورة الأنفال لكانت رؤيتُهم إياهم أقلَّ من أنفسهم أحقَّ بالذكر في كونهم آيةً من رؤيتهم مِثلَيهم على أن إبانةَ آثارِ قُدرةِ الله تعالى وحكمتِه للكفرة بإراءتهم القليلَ كثيراً والضعيفَ قوياً وإلقاءِ الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخلُ في كونها آيةً لهم وحجةً عليهم وأقربَ إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتِهم الكفرةَ المشاهدين للحال وكذا تعلقُ الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول، فجعلُ أقربِ المذكورَين السابقَين فاعلاً وأبعدِهما مفعولاً سواءٌ جعلُ الجملة صفةً أو مستأنفة أولى من العكس هذا ما تقضيه جزالةُ التنزيلِ على قراءة الجُمهور، ولا ينبغي جعلُ الخطاب لمشركي مكة كما قيل أما إن جُعل الوعيد عبارةً عن هزيمة بدر كما صرحوا به فظاهرٌ لا خفاء فيه وأما إن جُعل عبارةً عن هزيمة أخرى فلأن الفئةَ التي شاهدت تلك الآيةَ الهائلة هم المخاطبون حينئذ بالتعبير عنهم بفئة مُبهمةٍ تارة وموصوفةٍ أخرى ثم إسنادُ المشاهدة إليها مع كون إسنادها إلى المخاطبين أوقعُ في إلزام الحجة وأدخلُ في التبكيت مما لا داعي إليه، وبهذا يتبين سرُّ جعلِ الخطابِ الثاني للمؤمنين، وأما قراءة ترونهم بتاء الخطاب فظاهرُها وإن اقتضى توجيهَ الخطابِ الثاني إلى المشركين لكنه ليس بنص في ذلك لأنه وإن اندفع به المحذورُ الأخيرُ فالأولُ باقٍ بحاله فلعل رؤية المشركين نزلت منزلةَ رؤيةِ اليهود لما بينهم من الاتحاد في الكفر والاتفاق في الكلمة لاسيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق، فأُسندت الرؤيةُ إليهم مبالغةً في البيان وتحقيقاً لعُروض مثلِ تلك الحالة لهم فتدبر.
وقيل: المرادُ جميعُ الكفرة ولا ريب في صحته وسَداده، وقرئ {يُرَونهم} و{تُرَونهم} على البناء للمفعول من الإراءة أي يُريهم أو يريكم الله تعالى كذلك {رَأْىَ العين} مصدر مؤكدٌ ليَرَوْنهم إن كانت الرؤية بصريةً، أو مصدر تشبيهيّ إن كانت قلبية أي رؤيةً ظاهرة مكشوفةً جارية مجرى رؤية العين {والله يُؤَيّدُ} أي يقوي {بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء} أي يؤيده من غير توسيط الأسباب العادية كما أيد الفئةَ المقاتلة في سبيله بما ذكر من النصر وهو تمام القول المأمور به {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيراً المستتبعةِ لغَلَبة القليل العديمِ العُدة على الكثير الشاكي السلاحِ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشار إليه في الفضل {لَعِبْرَةً} العبرة فِعلة من العبور كالرِّكبة من الركوب والجِلْسة من الجلوس والمرادُ بها الاتعاظ فإنه نوعٌ من العبور أي لعبرةً عظيمة كائنة {لِأوْلِى الابصار} لذوي العقولِ والبصائر وقيل: لمن أبصرهم، وهو إما من تمام الكلام الداخلِ تحت القول مقرِّر لما قبله بطريق التذييل وإما واردٌ من جهته تعالى تصديقاً لمقالته عليه الصلاة والسلام.

.تفسير الآية رقم (14):

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}
{زُيّنَ لِلنَّاسِ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حقارةِ شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها وتزهيدٌ للناس فيها وتوجيهٌ لرغباتهم إلى ما عنده تعالى إثرَ بيانِ عدم نفعِها للكفرة الذين كانوا يتعزّزون بها والمرادُ بالناس الجنس {حُبُّ الشهوات} الشهوة نزوعُ النفس إلى ما تريده والمراد هاهنا المشتهَيات، عبّر عنها بالشهوات مبالغةَ كونِها مشتهاةً مرغوباً فيها كأنها نفسُ الشهوات أو إيذاناً بانْهماكِهم في حبها بحيث أحبوا شهواتِها كما في قوله تعالى: {إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} أو استرذالاً لها فإن الشهوة مسترذَلةٌ مذمومة من صفات البهائم، والمزيِّنُ هو الباري سبحانه وتعالى إذ هو الخالقُ لجميع الأفعال والدواعي والحكمةُ في ذلك ابتلاؤهم، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ} الآية، فإنها ذريعة لنيل سعادة الدارين عند كونِ تعاطيها على نهج الشريعةِ الشريفة ووسيلةً إلى بقاء النوع، وإيثارُ صيغة المبني للمفعول للجري على سَنن الكبرياء، وقرئ على البناء للفاعل وقيل: المزيِّنُ هو الشيطان لما أن مساقَ الآية الكريمة على ذمها. وفرّق الجبائيّ بين المباحات فأسند تزيينها إليه تعالى، وبين المحرمات فنسب تزيينها إلى الشيطان {مِنَ النساء والبنين} في محل النصب على أنه حال من الشهوات وهي مفسِّرة لها في المعنى، وقيل: {مِنْ} لبيان الجنس وتقديمُ النساء على البنين لعراقتهن في معنى الشهوة فإنهن حبائلُ الشيطان وعدم التعرض للبنات لعدم الاطّراد في حبهن {والقناطير المقنطرة} جمعُ قِنطار وهو المالُ الكثير، وقيل: مائةُ ألفِ دينار وقيل: ملءُ مَسْكِ ثور، وقيل: سبعون ألفاً وقيل: أربعون ألفَ مثقالٍ، وقيل: ثمانون ألفاً وقيل: مائةُ رِطل وقيل: ألفٌ ومِائتَا مثقالٍ، وقيل: ألفُ دينار وقيل: مائة قنطار ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وقيل: ديةُ النفس واختلف في أن وزنه فعلال أو فنعال، ولفظُ {المقنطرة} مأخوذ منه للتأكيد كقولهم: بَدْرةٌ مُبدَرة، وقيل: المقنطرة المحْكمة المحْصنة، وقيل: الكثيرة المُنضّدة بعضُها على بعض أو المدفونة المضروبة المنقوشة.
{مِنَ الذهب والفضة} بيان للقناطير أو حال {والخيل} عطف على القناطير وقيل: هي جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط، والواحد فرس وقيل: واحدُه خائل وهو مشتق من الخُيلاء {المسومة} أي المُعْلمة من السِمة وهي العلامة أو المرْعيّة من أسام الدابة وسوَّمها إذا أرسلها وسيَّبها للرعي أو المُطَهّمة التامةُ الخَلقْ {والانعام} أي الإبل والبقر والغنم {والحرث} أي الزرع مصدر بمعنى المفعول.
{ذلك} أي ما ذكر من الأشياء المعهودة {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} أي ما يُتمتّع به في الحياة الدنيا أياماً قلائلَ فتفنى سريعاً {والله عِندَهُ حُسْنُ المأب} حسنُ المرجِع، وفيه دلالةٌ على أن ليس فيما عُدّد عاقبةٌ حميدة، وفي تكرير الإسناد بجعل الجلالة مبتدأ وإسنادِ الجملة الظرفية إليه زيادةُ تأكيدٍ وتفخيم ومزيدُ اعتناء بالترغيب فيما عند الله عز وجل من النعيم المقيم، والتزهيدُ في ملاذّ الدنيا وطيباتها الفانية.

.تفسير الآية رقم (15):

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)}
{قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} إثرَ ما بيّن شأنَ مُزخْرَفات الدنيا وذكر ما عنده تعالى من حسن المآب إجمالاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفصيل ذلك المُجمل للناس مبالغةً في الترغيب، والخطابُ للجميع والهمزةُ للتقرير أي أأخبرُكم بما هو خير مما فُصّل من تلك المستلذات المزيّنة لكم؟ وإبهامُ الخبر لتفخيم شأنِه والتشويق إليه وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} استئنافٌ مبين لذلك المبْهم على أن {جنات} مبتدأ والجارّ والمجرور خبر، أو على أن جناتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية عند من لا يشترط في ذلك اعتمادَ الجار على ما فصل في محله، والمراد بالتقوى هو التبتُل إلى الله تعالى والإعراضُ عما سواه على ما تنبىء عنه النعوتُ الآتيةُ، وتعليقُ حصولِ الجنات وما بعدها من فنون الخيراتِ به للترغيب في تحصيله والثباتِ عليه، و{عِندَ} نُصب على الحالية من جنات، أو متعلق بما تعلق به الجار والمجرور من معنى الاستقرار مفيد لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين لإظهار مزيد اللطفِ بهم وقيل: اللامُ متعلقة بخير وكذا الظرفُ، وجنات خبر لمبتدأ محذوف والجملة مبينة لخير ويؤيده قراءة جناتٍ بالجر على البدلية من خير ولا يخفى أن تعليق الإخبار والبيان بما هو خير لطائفة ربما يوهم أن هناك خيراً آخرَ لآخَرين {تَجْرِى} في محل الرفع والجر صفةٌ لجنات على حسب القراءتين {مِن تَحْتِهَا الانهار} متعلق بتجري فإن أريد بالجنات نفسُ الأشجار كما هو الظاهر فجريانُها من تحتها ظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار فهو باعتبار جزئها الظاهر كما مر تفصيلُه مراراً {خالدين فِيهَا} حال مقدرةٌ من المستكن في {لِلَّذِينَ} والعامل ما فيه من معنى الاستقرار {وأزواج مُّطَهَّرَةٌ} عطف على جنات أي مبرأة مما يستقذر من النساء من الأحوال البدنية والطبيعية {وَرِضْوَانٍ} التنوينُ للتفخيم وقوله تعالى: {مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقع صفةً له مؤكدةٌ لما أفاده التنوين من الفخامة، أيْ رضوانٌ وأيُّ رضوان، لا يقادَر قدرُه كائنٌ من الله عز وجل وقرئ بضم الراء {والله بَصِيرٌ بالعباد} وبأعمالهم فيثيبُ ويعاقب حسبما يليق بها أو بصير بأحوال الذين اتقَوْا ولذلك أعد لهم ما ذكر، وفيه إشعار بأنهم المستحقون بالتسمية باسم العبد.

.تفسير الآيات (16- 18):

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا} في محل الرفعِ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ كأنه قيل: مَنْ أولئك المتقون الفائزون بهذه الكرامات السنية فقيل: هم الذين إلخ أو النصبِ على المدح أو الجر على أنه تابعٌ للمتقين نعتاً أو بدلاً أو للعباد كذلك والأول أظهر، وقوله تعالى: {والله بَصِيرٌ بالعباد} حينئذ معترضةٌ، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشىء من وفور الرغبة وكمال النشاط، وفي ترتيب الدعاء بقولهم {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النار} على مجرد الإيمان دَلالةٌ على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار {الصابرين} هو على تقدير كونه الموصول في محل الرفع منصوبٌ على المدح بإضمار أعني وأما على تقدير كونه في محل النصب أو الجر فهو نعت له، والمراد بالصبر هو الصبر على مشاقّ الطاعات وعلى البأساء والضراء وحين البأس {والصادقين} في أقوالهم ونياتهم وعزائمِهم {والقانتين} المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات {والمنافقين} أموالَهم في سبيل الله تعالى {والمستغفرين بالاسحار} قال مجاهدٌ وقَتادةُ والكلبي: هم المصلون بالأسحار، وعن زيد بن أسلَمَ: هم الذين يصلون الصبحَ في جماعة. وقال الحسن: مدُّوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا. وقال نافع: كان ابن عمرَ رضي الله عنه يحيي الليلة ثم يقول: يا نافع أسْحَرْنا؟ فأقول: لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح، وعن الحسن: كانوا يصلون في أول الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار. وتخصيصُ الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقربُ إلى الإجابة إذِ العبادة حينئذ أسبقُ والنفسُ أصفى والروح أجمعُ لاسيما للمتهجّدين، وتوسيط الواو بين الصفات المعدودة للدلالة على استقلال كلَ منها وكمالهم فيها، أو لتغايُر الموصوفين بها.
{شَهِدَ الله أَنَّهُ} بفتح الهمزة أي بأنه أو على أنه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي بيّنَ وحدانيتَه بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وإنزالِ الآيات التشريعية الناطقة بذلك. عبر عنه بالشهادة على طريقة الاستعارة إيذاناً بقوته في إثبات المطلوبِ وإشعاراً بإنكار المنكر، وقرئ إنه بكسر الهمزة إما بإجراء. {شَهِدَ} مُجرى قال، وإما بجعل الجملة اعتراضاً وإيقاعِ الفعل على قوله تعالى: {إِنَّ الدّينَ} إلخ على قراءة أن بفتح الهمزة كما سيأتي وقرئ {شهداءٌ لله} بالنصب على أنه حال من المذكورين أو على المدح وبالرفع على أنه خبر مبتدإٍ محذوف ومآله الرفع على المدح أي هم شهداء لله وهو إما جمع شهيد كظرفاء في جمع ظريف أو جمع شاهد كشعراء في جمع شاعر.
{والملئكة} عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنىً مجازيّ شامل للإقرار والإيمان بطريق عموم المجاز أي أقروا بذلك {وَأُوْلُو العلم} أي آمنوا به واحتجوا عليه بما ذكر من الأدلة التكوينية والتشريعية، قيل: المرادُ بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل: المهاجرون والأنصار وقيل: علماء مؤمني أهلِ الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه وقيل: جميعُ علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة، وارتفاعُهما على القراءتين الأخيرتين قيل: بالعطف على الضمير في شهداء لوقوع الفصل بينهما وأنت خبير بأن ذلك على قراءة النصبِ على الحالية يؤدي إلى تقييد حالِ المذكورين بشهادة الملائكة وأولي العلم، وليس فيه كثيرُ فائدةٍ فالوجه حينئذٍ كونُ ارتفاعِهما بالابتداء والخبرُ محذوفٌ لدلالة الكلام عليه أي والملائكة وأولو العلم شهداء ولك أن تحمل القراءتين على المدح نصباً ورفعاً فحينئذ يحسُن العطفُ على المستتر على كل حال وقوله تعالى: {قَائِمَاً بالقسط} أي مقيماً للعدل في جميع أمورِه بيان لكماله تعالى في أفعاله إثرَ بيانِ كماله في ذاته وانتصابُه على الحالية من {الله} كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} وإنما جاز إفرادُه مع عدم جواز جاء زيد وعمرو راكباً لعدم اللَّبس كقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} ولعل تأخيرَه عن المعطوفين للدَلالة على علو رتبتهما وقُرب منزلتهما والمسارعةِ إلى إقامة شهودِ التوحيد اعتناءً بشأنه ورفعاً لمحله، والسرُّ في تقديمه على المعطوفين مع ما فيه من الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به كما مر في قوله تعالى: {الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون} أو مِنْ {هُوَ} وهو الأوجه، والعامل فيها معنى الجملة أي تفرّد، أو أُحِقّه لأنها حال مؤكدة أو على المدح وقبل على أنه صفة للمنفي أي لا إله قائماً إلخ والفصل بينهما من قبيل توسعاتهم وهو مندرج في المشهود به إذا جعل صفة أو حالاً من الضمير أو نصباً على المدح منه وقرئ {القائمُ بالقسط} على البدلية من {هُوَ} فيلزم الفصلُ بينهما كما في الصفة أو على أنه خبر لمبتدإ محذوف وقرئ {قيّماً بالقسط}.
{لا إله إِلاَّ هُوَ} تكريرٌ للتأكيد ومزيدِ الاعتناء بمعرفة أدلةِ التوحيد والحُكم به بعد إقامة الحجةِ وليجرِيَ عليه قوله تعالى: {العزيز الحكيم} فيُعلمَ أنه المنعوتُ بهما، ووجهُ الترتيب إذن تقدمُ العلمِ بقدرته على العلم بحكمته تعالى ورفعُهما على البدلية من الضمير أو الوصفية لفاعل شهد، أو الخبرية لمبتدأ مُضمَر وقد روي في فضلها أنه عليه السلام قال: «يُجاء بصاحبها يومَ القيامة فيقول الله عز وجل: إن لعبدي هذا عندي عهداً، وأنا أحقُّ من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة» وهو دليل على فضل علم أصولِ الدين وشرفِ أهله، وروي عن سعيد بن جبير أنه كان حول البيت ثلثُمائة وستون صنماً فلما نزلت هذه الآية الكريمة خرَرْنَ سُجّداً. وقيل: نزلت في نصارى نَجرانَ. وقال الكلبي: «قدم على النبي صلى الله عليه وسلم حَبرانِ من أحبار الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدُهما: ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينة النبي الذي يخرُج في آخر الزمان فلما دخلا عليه عليه السلام عرفاه بصفته فقالا له عليه السلام: أنت محمدٌ؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم قالا: وأنت أحمدُ؟ قال عليه السلام: أنا محمدٌ وأحمد قالا: فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال عليه السلام: سلا فقال: أخبِرْنا عن أعظم شهادةٍ في كتاب الله عز وجل فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة فأسلم الرجلان».